بقلم / د. سعد الدين إبراهيم .. مشاعر العودة إلى الوطن

غبت عن مصر فى المنفى ثلاث سنوات وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، بين مايو ٢٠٠٧ وأغسطس ٢٠١٠، وهى فترة مساوية تقريباً مع المدة التى قضيتها بين المحاكم والسجون من شهر يوليو ٢٠٠٠ إلى شهر مارس ٢٠٠٣. ورغم اختلافات شتى بين المنفى والسجن، فإن هناك تشابهاً كبيراً فى المشاعر المُصاحبة لكل منهما، وكذلك للمشاعر التى تجتاح الإنسان حينما ينتهيان.

فبداية يشترك السجن والمنفى فى استلاب حقوق عزيزة عل&ie;لى القلب والعقل، فالسجن هو سلب للحُرية وتعطيل للحركة والإرادة، وحرمان من التفاعل والألفة مع الأهل والجيران والأصدقاء، ومن الاستمتاع بمعظم مباهج الحياة. وهذا الاستلاب وذاك الحرمان هما تحديداً ما ينطوى عليها هدف العقاب.

كان الاستقبال الحافل فى مطار القاهرة أكبر كثيراً مما توقعت. فقد كنت أتوقع أفراد عائلتى المُمتدة والأصدقاء المُقربين، والعاملين فى مركز ابن خلدون، وبعض طلابى من الجامعة الأمريكية بالقاهرة. ولكنى وجدت عدة مئات، لم أتعرف على وجوه معظمهم، رغم حرارة مصافحتهم واعناقهم، وتأثرت بوجه خاص بحضور المستشار مرسى الشيخ، والمحامين فاطمة ربيع ورابعة فهمى وعبدالفتاح مصطفى وأبوالنصر أبوالمجد ومحمد محيى الدين وشادى طلعت، وأعضاء اتحاد المحامين الليبراليين، والصحفى والباحث مجدى سمعان.

ومع ذلك انتابتنى خلال الأسبوع التالى بأكمله، حالة أشبه ما تكون بانعدام الوزن، وحاولت التغلب على هذه الحالة بالانغماس فى الحياة اليومية لمن هم حولى بحكم الجيرة والزمالة والقرابة. فذهبت فى اليوم التالى مباشرة إلى مركز ابن خلدون، حيث التقيت رفاق ورفيقات السلاح الذين صمدوا فى وجه الحصار الحكومى والتشويه فى وسائل إعلامه. وعانقت أقدمهن وهى السيدة الشوادفى، وأحدثهن، وهى سهير شلبى، وكذلك مُساعدتى الوفية فاطمة صابر وبين الأقدم والأحدث، كان هناك جيل وسيط من الباحثين والعاملين: د.مصطفى النبراوى، ود.عبدالله شلبى.

ثم توجهت فى نفس اليوم إلى الجامعة الأمريكية، التى عملت فيها منذ ثلاثين عاماً (١٩٧٥-٢٠٠٧). ولكن الجامعة كانت انتقلت، أثناء سنوات المنفى، من موقعها التاريخى فى ميدان التحرير بوسط القاهرة، إلى موقع جديد، أكبر وأحدث فى القاهرة الجديدة، ورغم روعة المعمار، الذى حرصت الجامعة على أن يكون ذا طابع عربى إسلامى (أقسام العلوم الاجتماعية والإنسانيات) أو ذا طابع مصرى فرعونى (التاريخ والآثار) أو ذا طابع عربى حديث (مبانى أقسام العلوم والهندسة)- فإن معظمها كان مهجوراً، فالطلبة والأساتذة كانوا فى إجازتهم الصيفية.

وبالكاد صادفت أستاذة من زملائى فى قسم الاجتماع، وهى الدكتورة هيلين ريزو، وبعض الإداريين، وعدداً قليلاً من طلاب الجامعة المصريين والأجانب ممن كانوا فى آخر يوم من الفصل الصيفى. وأصرت أستاذتهم أن أوجه لهم كلمة، ولو فى دقائق، حيث إن معظمهم كان قد سمع وسأل عنى. وقد فعلت ذلك بالفعل، ولكن الطلبة، وكان معظمهم من جامعة برلين الحُرة، أصروا على أن يديروا معى حواراً، امتد إلى ساعتين.

كانت زوجتى د. باربارا ليثم إبراهيم، الأستاذة ومديرة مركز جيرهارت للدراسات المدنية تزاملنى فى كل جولاتى لا حباً فى صحبتى بقدر ما هى للرقابة على ما أقول، سواء بالإنجليزية، أو بالعربية التى أصبحت تجيدها تماماً، ولكثرة تنبيهاتها ونقدها لما أقوله، بل منعى أحياناً من مُقابلة الصحفيين أو المُريدين، قلت لها فى أحد المواقف «إن التعامل مع النظام الحالى، أسهل من التعامل معها!».

وقد أغضبها ذلك، ولكنه الحقيقة، على الأقل خلال الأسبوع الأول. وأرجو أن تتحسن المُعاملة خلال الأسبوع الثانى والأخير من إقامتى فى مصر المحروسة. طبعاً، أنا أدرك أن تلك الرقابة الزوجية الصارمة، مصدرها الحرص على ألا أقول شيئاً يستفز السُلطات المصرية، فتعود إلى سابق عهدها. ففى هذا كله تُعانى الزوجة والأبناء وبقية الأهل ربما أكثر مما يُعانى صاحب الشأن المُباشر نفسه!.

فى اليوم الثالث بعد وصولى، توجهت إلى مُحافظتى وهى الدقهلية، حيث تعيش شقيقاتى وأشقائى، وأولادهم وأحفادهم. ولضيق الوقت وإلحاح الشوق، طلبت زوجتى من كل الأقارب فى مدينة المنصورة أن يتجمعوا فى منزل شقيقتى الكُبرى، شفيقة، حتى من أراد أن يرانى من الصحفيين، وبعضهم كان قد سبقنى إلى قريتى «بدين» اضطر إلى التراجع عشرين كيلومتراً، إلى المنصورة، وزاحموا الأسرة فى منزل الحاجة «شفيقة». كذلك جاء عديد من الأصدقاء والجيران والفضوليين إلى نفس المنزل، حتى ضاق بهم، مما دفع بعض الأقارب من الضباط إلى تنظيم وتحديد مدة زيارة كل وافد، بما لا يتجاوز نصف ساعة!

وغادرنا المنصورة إلى قريتى «بدين» فى المساء، حيث وصلناها فى العاشرة، فوجدنا منزل الأسرة القديم مليئاً بالأهل من الأسرة المُمتدة: بعض أولاد شقيقى الراحل إبراهيم، سمير وعادل وناصف، وأبنائهم، وأولاد العمومة من آل الفرجانى، وعدد من شباب الإخوان المسلمين فى القرية. وظلت السهرة مُمتدة إلى الثانية والنصف صباحاً، تخللتها وجبة عشاء، أصرت زوجتى على أن تكون خفيفة، خالية من اللحوم أو الدجاج أو الطبيخ (المسبك). وهو ما كان.

ولكن لاحظت أن الخُبز مُختلف، عما عهدته فى قريتى من قبل. سألت عن ذلك فعلمت أنهم أتوا به من المدينة، لأنه أرخص من تكلفته فى القرية، فسألت عن مصدر الجبن والقشدة والعسل والزيتون، فقيل لى إنه أيضاً من المدينة! وأحزننى ذلك. لا فقط بسبب الاختلاف فى المذاق، ولكن أيضاً لهذه التبعية والاعتمادية على المدينة!

واكتشفت أن ذلك ليس هو التغير الوحيد الملموس، ولكن هناك تغييرات أخرى، ربما أكثر أهمية. من ذلك كثرة أبناء القرية العاملين فى الخارج، حتى إن كل منزل فى القرية خرج منه واحد أو أكثر للعمل فى أوروبا أو أمريكا، أو حتى كوريا واليابان- أى أننا نتحدث عن ألف شاب على الأقل من قرية لا يتجاوز سكانها عشرة آلاف شخص. ولإدراك مغزى هذا التغيير ووتيرته، أقول لقرّاء هذا المقال، إننى حينما ذهبت للدراسة فى الخارج عام ١٩٦٣ ـ أى منذ سبعة وأربعين عاماً- كنت الوحيد فى القرية الذى سافر بالطائرة، وعبر البحر الأبيض المتوسط، والمحيط الأطلنطى!

كانت أحاديث أهل القرية هذه المرة مليئة بالسياسة، حيث يُريد أحد أبناء شقيقى الراحل ترشيح نفسه لمجلس الشعب، وهو الشاب محمد نبيل إبراهيم. وهو فى منتصف الثلاثينيات من عُمره، وقضى عدة سنوات فى هولندا، وعاد منها مؤخراً، ومعه قدر من المُدخرات، وكثير من الطموح للعمل العام. ولأنه يُريد أن يترشح «حزب وطنى» فقد انقسم إخوانه وأصدقاؤه وأعمامه حول هذا الأمر.

وسمعت بعض المُعارضين لمشروع محمد نبيل يتندرون على الحدث، بعبارة «الحزن الوطنى» ـ وكانت المرة الأولى التى أسمع فيها هذا التعبير (حُزن بدلاً من حزب). وكان آخرون يعترضون لصغر عُمره، وغيابه الطويل عن القرية والدائرة الانتخابية والوطن. فقذف فى وجوه المعترضين باسم جمال مبارك، كشاب مثله، ثم باسم د. محمد البرادعى كغائب عن الوطن مثله!

وكان أغرب ما طلبه منى الشاب الطموح محمد أن أتوسط له لدى الحزب الوطنى، لكى يحظى بالترشيح عن دائرة «بنى عبيد»، التى تضم قريتنا، فبادرته بسؤال استنكارى «ألا تعلم يا محمد أن بينى وبين هذا الحزب ما صنع الحداد؟» رد الشاب الطموح وبراءة الأطفال فى عينيه: «نعم أعرف... ولكنك صديق صدوق للدكتور على الدين هلال، الذى طالما زارنا، هنا فى (بدين)!

قلت للشاب محمد نبيل إبراهيم: اذهب يوماً لمقر أمانة الحزب الوطنى، وقل لضابط الأمن إنك تريد أن تقابل أمين الإعلام بالحزب، وبناء على رد الفعل، اتخذ قرارك إما الترشح أو العودة إلى هولندا، حيث وجدت نفسك، وكانت «رحلة المليون» الأول بالنسبة لك!

عدت إلى القاهرة والتقيت فى الأيام التالية بعدد من الشخصيات العامة، كان أبرزهم هو د. أيمن نور، وأ. إبراهيم عيسى، ود. أسامة الغزالى حرب. ورغم أننى لم ألتق الأستاذ محمد بديع، المرشد العام للإخوان المسلمين، ولا الدكتور محمد البرادعى، فإن رئيس تحرير «الجمهورية» محمد على إبراهيم، خرج على قرائه، صباح الخميس ١٢ أغسطس، وعلى الصفحة الأولى، بأكبر بنط لدى الجريدة بعنوان «غرام الأفاعى»، وصور ملونة للأفاعى الثلاث ـ محمد بديع ومحمد البرادعى وسعد الدين إبراهيم- وحديث خيالى محبوك عن مؤامرة يدبرها هذا الثلاثى!

شرفنى أن أكون، ولو بالصورة وفى «خيال» رئيس تحرير الجمهورية، فى صُحبة شخصين مرموقين وأتشوق لفرصة ألتقى فيها الرجلين الكريمين. فإذا كان لديه أرقام هواتفهما، فليتكرم علىّ بها لأرتب مواعيد ألقاهما فيها فى زيارتى القادمة للوطن بعد عشرة أيام.

أما إذا كان كرمه فائضاً فى هذا الشهر الكريم، فيلقم هو بترتيب اللقاء، ويحضره معنا، ويفوز بسبق صحفى، مثل ذلك الذى أحرزه الإعلامى الأشهر «والتر كرونكايت»، حينما رتب لقاء بين الرئيس الراحل أنور السادات، ورئيس الوزراء الإسرائيلى، مناحم بيجن. نعم، يمكن لمحمد على إبراهيم أن يفعل خيراً واحداً فى حياته، يُكفّر به عما يفعله بقرائه صباح كل خميس. ورمضان كريم.

والله أعلم