..عندما كان أذان المغرب يتسرب من بين قضبان السجن ، كنت أحن بشدة لمائدة إفطار أمى ، ولصوت أبى ، وهو يرتل القرأن فى صلاة المغرب !! كنت أحن لرفقة زوجتى ونور وشادى ونحن نسابق الزمن والزحام للوصول لبيت العائلة قبل إنطلاق مدفع الأفطار !!
.. فى سجنى كانت تعترينى أشواق جارفة لهذة الصورة المحفوره فى الذاكرة ، التى تَسطعُ فيها صور الأحباب متفرقه ومترقرقه بين الدموع المحتبسه والجدران المعتمه .. وبرودة مشاعر الوحدة !!
.. كنت في سجني أقاوم هذه المشاعر بأحلام اليقظه !! كنت كل يوم لحظة الأفطار أوجه دعوه إفتراضيه لواحداً من أحبابى ، أجلسه إلى جوارى ، أشاطره الكثير من الحديث ، والحنين ، والقليل من الطعام..
.. حفل إفطارى فى أول أيام صيامى ، فى كل عام من أعوام السجن ، كان ضيوفه أمى وأبى ، وزوجتى وأبنائى ، حضورهم كان يملأ الزنزانه بهجه ، وحنان ، وفرحه بالصيام ، ويعطى مزاقاً وطعماً ودفئاً للإفطار البارد..
حفل إفطارى الثانى ، كنت أستضيف فيه أسرة زوجتى ، والدها العزيز ، الذى رحل عن الدنيا فى سنوات سجنى دون وداع بيننا ، ووالدتها، وخالاتها .. وشقيقيها وأطفالهم وزوجاتهم ، حفل كرنفالى لأسر صغيره تكبر فى هذا اللقاء السنوى بأجتماعها على مائده واحده وكأنها حضن كبير يجمع ما فرقته أيام العام..
.. حفل الأفطار الثالث ، كنت أستحضر فيه بقلبى وخيالى أصدقاء الطفوله والشباب ، الجامعه وما بعدها ، المجلس والحزب ، رامى لكح الذى كان يفطر معى فى بيت أمى فى أول أيام رمضان ، وإيهاب الخولى ووائل نواره وصديق الطفوله أكمل تمام ، وزملاء الوفد عادل القاضى ، ومصطفى شفيق ، والمرحوم أحمد كمال ، وأيمن عبد العال .. وأخرين كانت تتسع لهم مائدة السجن رغم ضيقها وفقرها
.. حفل افطارى الرابع فى سنوات سجنى الاربع ،كان مع عروس البحر الحبيبه الأسكندريه ، حيث كان قبلى يجرفنى إليها حيث اشتاق لرائحة أمى ، وصورتها الباقيه بين أهداب خالاتى ، وصفاء قلوبهن ، فى هذا اليوم كنت أشعر وكأنى أسير بخجل كالطفل الذى دعاة الحنين لفردوسة المفقود ، اتنقل بمشاعرى بين "المنارة" وهى مدافن الأسكندرية التى ترقد فيها أمى وجدى وجدتى وأسير منها لمنزل أستاذى ومعلمى الدكتورالشافعى بشير الذى يفصلة عن المنارة طريق الحرية
..خامس أيامى فى رمضان خلال سنوات سجنى ،كنت أنتقل بقلبى خارج سجنى وتحديداً لدائرتى باب الشعرية والموسكى ، حيث الإفطار خارج القضبان ، وتحديداً فى ذلك الميدان ،الذى كان بيتى الثانى ،حيث تحيط بنا المساجد ،والمأذن الفاطمية ،ويرتفع الأذان فى كل مكان ،من عشرات الزوايا والتكايا وحولنا مئات الأطفال يتغنون، ونساء، ورجال، ومريدون ،وشباب مخلصون ،وفوانيس من البشر لاتنطفئ جذوه حماسها أبداً !!
..فى سادس أيام إفطارى فى سجنى كنت أمد طاولتى كى تتسع لافطار الوحدة الوطنية الذى اعتدت أن أقيمة كل عام – طوال 15 عاما مضت – حيث يجتمع حولة رموز الأمة من مسلمين وأقباط ، عمامات سوداء وبيضاء ، ورموزللثقافة والحوار وحتى بعض رموز النظام !!
.. فى أول أيام رمضان هذا العام قضيتة مع أمى فى قبرها .. وفى باقى الأيام ظللت أبحث عن أخرين لا ظل لهم فى الواقع حتى الأن .. رغم انهم علي قيد الحياة !!
..مضى الأسبوع الأول من رمضان ..خارج القضبان، حيث لا قيود فى الدعوة، ولا مبرر للأستعاضة بالخيال عن واقع متاح، وغير متاح!!
..اليوم أشعر أن رمضان فى السجن كان أكرم بكثير ، وأن مائدتى الأفتراضية كانت أكثر رحابة من واقع تتجاوز قسوتة قسوة السجن والسجان ، وقيود القضبان وغدر الإنسان بالإنسان..
..حقاً.. لم يعد فى الناس أمان !! لم يعد للناس أمان !!
..فى رمضان ليس مهما طعام البطون ، والصحون ، وضيافة الدور أو القصور ، فما قيمة كل هذا إذا غابت المشاعر ولم يعد متاحاً غير زيارة الأحباب فى المقابر ؟!
..صدق القائل : "أحبب حبيبك هونا ما ،فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما" !!
..وصدق الشاعر الذى قال :
..خليلى لا واللة ما من ملمة
..تدوم على حى وأن هى جلت
..فإن نزلت يوماً فلا تخضعن لها
..ولا تكثر الجفا إذا النعل زلت
..فكم من كريم قد بلى بنوائب
..فصابرها حتى مضت واضمحلت
..وكانت نفسى على الأيام عزيزه
..فلما رأت قدر صبرى على الغدر ذلت